بعد أن ألقى القوم متاعهم من السفينة، استهَموا لاختيار أحدهم ليقذف بنفسه في البحر، بهدف تخفيف حمولة السفينة التي تواجه غرقا مُحققاً، فخرج سهم نبي الله يونس – عليه السلام -، فألقى بنفسه في ظلمات البحر.
الأمر في القصة جدّ منطقي، فالغرق محقق والاقتراع حتمي، إما أن يغرق أحدهم أو تغرق السفينة بكل من فيها.
بينما لم يكن من المنطقي أن يطرح البروفيسور عالم البيئة الأميركي اليهودي جاريت هاردن فكرته المعروفة بـ«أخلاقيات قارب النجاة» والتي يُشبّه فيها العالم بقارب للنجاة ليس فيه من الطعام ما يكفي الجميع، وبالتالي يجب أن يذهب الطعام إلى من يتمتعون بأكبر فرصة للنجاة، ويدع قائدُ السفينة الذين يصارعون الأمواج للغرق، وينبغي ألا يشعر بوخز الضمير، لأنه حافظ على ركاب السفينة الأقدر على النجاة.
سندرك أن فكرة هاردن بعيدة عن المنطق والموضوعية والحيادية، إذا ما علمنا أن السفينة هي الأرض بمواردها، وركاب السفينة هم الغرب، بينما الذين يصارعون الموت هم شعوب العالم الثالث.
وسندرك أن الفكرة بعيدة عن المنطق عندما نرى اصطدامها بالواقع الذي يؤكد أن ندرة الغذاء ما هي إلا خرافة كرّس لها هاردن وأمثاله، واستغلتها الدول ذات الطبيعة الاستعمارية سلاحاً للتحكم في الشعوب، وأداة فعّالة في معارك الاستقطاب ليتحكم من يملك فيمن لا يملك.
في كتاب صناعة الجوع لفرانسيس مور لاييه وجوزيف كولينز، دحض المؤلفان هذه الفرية المستخدمة لقهر الشعوب وإخضاعها، وأوضحا أن مساحة الأراضي الصالحة للزراعة على كوكب الأرض لا يُزرع أكثر من نصفها، وأن ما ينتجه العالم يومياً يُقدّر برطلين من الحبوب وحدها لكل شخص، بخلاف الخضراوات والفواكه والجذور واللحوم، لكنه سلاح الجوع الذي كان سمة بارزة في النظام العالمي القديم والجديد.
في ظل الاحتلال أو ما يعرف بالاستعمار، مات الملايين جوعاً في المستعمرات التي تُصدِّر شعوبُها الغذاء. في أوائل الأربعينات مات مليون ونصف المليون من الهنود في المجاعة الشهيرة إبان الاحتلال البريطاني، في الوقت الذي كانت آلاف الأطنان من الأرز تتدفق خارج الهند بمعرفة بريطانيا إلى حيث المال والربح.
أمتنا العربية والإسلامية التي امتد الاستعمار من شرقها إلى غربها، كانت بمثابة مؤسسات زراعية للمحتلين، لا يجب النظر إليها باعتبارها دولاً أو حضارات، وأن مهمتها إمداد المجتمع الأكبر الذي تنتمي إليه (أي دولة الاحتلال) بما يحتاج إليه، وهو ما أكده الفيلسوف والاقتصادي البريطاني جون ستيوارت ميل.
كان لزاماً على تلك الدول تسديد فاتورة مصروفات الاحتلال، والذي عمل على إفقارها وتجويعها بصورة تمتد إلى الأجيال التالية، فالذي يمتلك غذاءه يمتلك فكره وقراره، وهو ما عمل المحتلون على سلبه من الشعوب الإسلامية والعربية.
لقد عملت الدول الاستعمارية على إصابة شعوبنا بالتخلف الزراعي، فحلّت المحاصيل النقدية (كالتبغ والبن ونحوه) محل المحاصيل الغذائية، لارتفاع سعر الأولى وعِظم ربحها، وهو ما أحدث الانفصام بين الزراعة والتغذية في تلك الدول، وتم الاستيلاء على أجود الأراضي وجعْلها مزارع لمحاصيل التصدير، كما عمل الاحتلال على منع الفلاحين المحليين من منافسة الشركات الأجنبية والمستوطنين في المحاصيل النقدية.
نجحت الدول الاستعمارية – لا شك – في تجريد شعوب الأمة من المهارات الزراعية الأساسية، وأطاحوا بالزراعة من قائمة أولويات الشعوب الإسلامية والعربية، وأصبحت وثيقة الارتباط في أذهانهم بالانحطاط الاجتماعي، واستعبدت المواطنين الذين لجأ كثير منهم إلى الهجرة وترْكِ الأرض.
والأدهى من ذلك أن الدول الاستعمارية وضعت ثِقَل الاقتصاد النقدي في يد الأثرياء، ودعّمت ملكية القِلِّة للأراضي الزراعية، وهو ما تُعاني الشعوب الإسلامية والعربية أثرَه في ضعف التنمية إلى يومنا هذا.
وكانت الطامة الكبرى تقسيم الدول الاستعمارية للأمة وفك الارتباط الثقافي بين شعوبها، الأمر الذي أفقدها التعاون والتكامل في الاكتفاء الذاتي من الغذاء، كل حزب لما لديهم فرحون.
أميركا الوريث الأكبر للتركة الاستعمارية نصّبت نفسها السيد الذي يقرر نسبة من يركب السفينة، فوزير الدفاع الأميركي الأسبق روبرت مكنمارا قال في خطاب له أمام نادي روما في 1979: «إن الارتفاع الصاروخي لعدد سكان العالم يشكل أكبر عائق أمام التطور الاقتصادي والاجتماعي، لهذا ينبغي منع وصول عدد سكان الأرض إلى 10 بليونات»، ورأى أن ذلك يتحقق بطريقتين: «الأولى خفض معدل الولادات، والثانية رفع معدل الوفيات، والأخيرة يمكن تحققها بسهولة في العصر النووي، إذ يمكن للحروب أن تؤدي الغرض، إضافة إلى المجاعات والأمراض». هكذا قال مكنمارا!
قبلها بخمسة أعوام أصدر مجلس الأمن القومي برئاسة هنري كيسنغر مذكرة اعتمدتها الرئاسة في 1975، تفيد بأن زيادة سكان العالم هي التحدي الأكبر أمام أميركا، وأنها ستؤدي إلى ظهور جيل معادٍ للإمبريالية، مقترحاً في المذكرة استخدام الغذاء سلاحاً لمواجهة زيادة السكان. لقد صار الغرب مهووساً بخفض عدد سكان العالم الثالث عن طريق إغراقه في الحروب والمجاعات، وحتى المعونات التي تقدم إلى الشعوب المنهوكة، تُقدم بصورة شديدة الانتقائية، إذ تذهب في خدمة مصالحه السياسية على طريقة «ثالوث المعونة» الذي استخدم في الحرب العالمية الأولى، إذ كان يتم تصنيف جرحى المستشفيات الميدانية بحسب احتمال شفائه وعودته إلى ميادين القتال مرة أخرى! الأمم المتحدة – التي أصبحت كما قال تشومسكي «تعمل ممثلة للقوى الكبرى» – تتصرف على هذا النحو الانتقائي في المعونات على الأراضي السورية، مما جعل الباحثة لارا نيلسون تقول في مقالة لها على ميدل إيست آي: «إن حوالي 96 في المئة من المساعدات تذهب إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام السوري، نتيجة لذلك فإن جميع الوفيات بسبب الجوع تقع في مناطق المعارضة».
قطعاً أنا لا أبرئ ساحتنا في الوصول إلى ما وصلنا إليه بإلقاء اللائمة على الغرب، فأشد من استخدامهم سلاح الغذاء في وجهنا للتحكم في قراراتنا ومصائرنا، أشد من ذلك سياساتنا الاقتصادية الضعيفة، والشتات الذي تحياه الدول شعوباً وحكومات، والهوة السحيقة بين الحكام والمحكومين، والظلم الاجتماعي الذي يضعف القدرة الإنتاجية، وسيل من الأسباب الأخرى التي لا تقل في أثرها عن الاستهداف الغربي بالتجويع. التبعية الاقتصادية كما يقول الدكتور جاسم سلطان من أبرز المشكلات التي تواجهها أمتنا وتجعلها تدور في فلك المستهلكين لا المنتجين، يلازمها بالضرورة التبعية السياسية.
لذلك لا غنى عن امتلاك قوتنا، وأرى أنه لا ينقصنا شيء من مقومات تحقيق الأمن الغذائي، فالأرض الصالحة للزراعة في العالم الإسلام تقدر بحوالى 2200 مليون هكتار، يزرع منها 242 مليون هكتار فقط، وهي نسبة لا تزيد على 11 في المئة من الأراضي الصالحة للزراعة، كما أنه لدينا مجموعة كبيرة من أكبر أنهار العالم لا تتم الاستفادة من المياه الفائضة منها، ولدينا ثروة بشرية مهدورة لم نستفد منها، وجعلنا منها عِبئاً على موازنات الدول، وكلها مقومات أساسية لامتلاك الغذاء. امتلاك الخبز هو الخطوة الأولى لتحرير القرار السياسي من مخاوف السماء المفتوحة التي تزعجنا تهديداتها، فمن يملك قوته يملك قراره.
أحدث التعليقات