كفور نهاية أعمال المؤتمر الاقتصادي المصرى، خرجت علينا معظم صحف مصر المستقلة والقومية والحزبية تحت مانشيت موحد يقول “مصر تستيقظ”، فيما كانت صحيفتان أكثر تحديدا ودقة تُوضِّحان أن ذلك الاستيقاظ يتم “الآن”! حسنا سنفترض أن المانشتات المتطابقة تعبر عن توارد خواطر وحِسّ وطنيّ رفيع ولا تعبر لا سمح الله عن حصة “إملاء”. لكن ألا يجدر بنا هنا ومع افتراض حسن النية الرهيب هذا، الذي قد يتهمنا البعض إزاءه بالسذاجة، أن نسأل عن ماهية وكيفية هذا الاستيقاظ؟
أعلم أن الأسئلة في لحظات الاحتفال والأضواء المُبهرة تكون ثقيلة الظّلّ، فهذا جزء من سيكولوجية الجماهير التي لا ترغب عادة فى أوقات الآمال والأحلام أن يأتي إليها أحد ليقطع وصالها وتماهيها مع الموقف الاحتفالي بأسئلة من قبيل كيف ولماذا ومتى….الخ.
تذكرت ذلك الدرس المستفاد من كتب كثيرة تكلمت عن سيكولوجية الجماهير فقررت أن أكون براجماتيا وألا أقطع حبال وصال الجماهير وأحلامها خلال الفترة الماضية، واخترت أن أنتظر حتى تنتهى الاحتفالات وأن أنتقى ألفاظى بعناية عسى ألّا يتّم اتهام مقالى “بثقل الظل” أو بتعكير مزاج مصر لحظة استيقاظها. فهو مجرد مقال لإبداء ملاحظات مشروعة حول كيفية وشروط هذا الاستيقاظ..
أولا: حتى تستيقظ مصر فلابد من الخروج من أجواء الاستقطابات التى تدفع الجميع إلى الأحكام المسبقة المتحيزة هنا أو هناك. فلا يمكن وصف المؤتمر بعبارات مثل “العبور الثالث” أو ربما الرابع أو الخامس لم أعد قادرا على العد، أو فى المقابل يتم اعتباره “مؤتمر بيع مصر” هكذا دفعة واحدة. أتفهّم تماما أن النظام السياسى المصرى فى حاجة إلى إنجاز، وأن الرئيس الحالى يعلم جيدا أن الأداء الاقتصادى لنظامه أصبح معيارا هامّا لتحديد مستقبل حكمه.
وأن كثيرين من أبناء الشعب المصرى صبروا بما فيه الكفاية ولديهم رغبة قوية فى التعلّق بالآمال. فالشعب بالفعل لم يعد قادرا على تحمّل المزيد من الإحباطات، فالقليل من الإيجابية أمر مطلوب بالفعل. لكن حتى تستيقظ مصر فلابد من التفرقة بين الإيجابية فى تناول حدث ما وبين استغلاله لعمل دعاية سياسية لصالح أو ضد النظام. ذلك أن البلد – وليس النظام – هى من تذهب عادة ضحية لمثل هذه الدعاية الرخيصة. ومن هنا فإن التناول العقلانى للحدث يكون فرضَ عينٍ على الجميع.
ثانيا: حتى تستيقظ مصر لابد من رفض استغلال الحدث للمزايدة على المعارضين باسم الوطنية، بنفس قدر رفض تمنّي بعض هؤلاء المعارضين فشل المؤتمر، لا لشئ إلاّ لإثبات أن فترة حكمهم وحكم أحبابهم كانت أفضل وأنّ بديلها هو الخراب. قد تنتقد أو تشكّك فى المؤتمر ونتائجه لأنك ترفض الفكر الرأسمالى، أو لأن القدر قاد أحد معارفك أو ذوى رحمك أن يكون ضمن ضحايا النظام الحالى قتيلا أو مصابا أو معتقلا، أو حتى لأنك رأيت هذا المولد الصاخب ينصبّ لجهاز القوات المسلحة لعلاج الكبد، أو لمشروع المليون وحدة سكنية لمحدودى الدخل، أو حتى للمليارات التى سمعْتَ عنها تتدفّق على صندوق تحيا مصر ومن قبله صندوق ٣٠/٦ ثمّ فوجئتَ أنّ الموجود فعليا هى عدّة ملايين فقط تبرع بمعظمها فئات شعبية تحبّ بلدها عن حقّ بعيدا عن دعاية النظام.
من حقك أن تنتقد أو تسأل أو تترقّب وتؤجّل الاحتفال، وواجب النظام ورجاله هو أن يثبت لك عمليا أن هذه المرة بالفعل مختلفة بدلا من المزايدة عليك.
ثالثا: حتى تستيقظ مصر لابد من عدم القفز على الزمن لحسم النجاح أو الفشل. لاشك لديّ أن المؤتمر قد نجح تنظيميا وأمنيا ودعائيا، وأنه بالفعل قد عزّز فرص النظام السياسية إقليميا وعالميا، وأن النظام المصري الآن يتمتع بشرعية دولية أفضل بكثير من تلك التي كان يملكها عشية 3 يوليو. كما أنه منح بذكاء دفعة ثقة لجهاز الدولة والنظام بدءاً من الموظف العادي مرورا بوكيل الوزارة والوزير ورجل الشرطة والجيش، إلا أن الحكم على نجاحه اقتصاديا يحتاج لبعض الوقت.
ذلك أن علماء الاقتصاد السياسي دائما ما يميزون بين ثلاثة مستويات للنجاح الاقتصادى، المستوى الأول هو مستوى الأرقام الكلية aggregation، كأن تقول مثلا أن إجمالي ما وقعته من استثمارات في المؤتمر هو 100 مليار دولار، وبين مستوى التوزيع distribution، أي الكيفية التي تم بها توزيع هذا المبلغ على المشروعات المختلفة، وبالتالى مدى استفادة الطبقات المختلفة، وأخيرا مستوى الكفاءةefficiency أي مدى كفاءة استخدام تلك المبالغ ومستويات الفساد التى تحدّد مدى استفادة المواطن العادى بها. وبالتالى الحكم بالفشل أو النجاح يحتاج من عامين إلى ثلاثة على الأقل ولا يمكن الجزم به أو بعكسه الأن!
رابعا: حتى تستيقظ مصر فلابد من التفرقة بين لحظات الإبهار المؤقتة تحت أضواء الكاميرات وبين السياسات طويلة الأجل القادرة على التغيير الفعلى. فلاشك أن تلك اللقطة التى ظهر فيها السيسى ملتفّا حوله عشرات الشباب والفتيات ممّنْ شاركوا فى تنظيم المؤتمر أو فى أحد فعالياته كانت ذكية، وكاتب هذه السطور يحترم الذكاء حتى لو اختلف مع صاحبه. وهى محاولة جيدة لكسر القيود والبروتوكولات التى تفصل بين الرئيس وبين الشعب. كانت اللقطة مبهجة وبسيطة ومعبرة. وذكاء اللقطة وبساطتها وتلقائيتها دفع بعض الشيوخ فى دول صديقة لتكرارها فور العودة إلى بلادهم. نحن إذا أمام رئيس يحاول كسب قطاع من الشباب وهذا أمر محمود ولكن أي شباب؟
هناك دائما ذلك الخطأ الكلاسيكي الذي وقع فيه جمال مبارك حينما حاول فعل الشيء نفسه بعد شيخوخة والده، فاختار فئة معينة حسنة المظهر لبقة الحديث وأهمل جوهر الملف الذى لايتعلق فقط بصور” السيلفي” ولكنه يمتد أيضا لمعالجة كل قضايا الشباب العالقة وخاصة قضايا الاعتقال والظلم واللفظ السياسي فضلا عن البطالة وغيرها من القضايا التى تقف في طريق الشباب. فهل نعالج جوهر الملف أم نقف عند قشوره؟
خامساً: حتى تستيقظ مصر فلابد فورا من إجراء إصلاحات سياسية في ملفات مثل المعتقلين، القضاء والعدالة، الانتخابات النيابية، ملف الحريات، القوانين غير الدستورية مثل قانون التظاهر الذي بسببه يقبع المئات في السجون دون ذنب، هيكلة الداخلية، إصلاح الجهاز البيروقراطي، وغيرها من الملفات المؤجلة أو بعبارة أخرى المجمدة، فالنظم الرأسمالية التي تعتمد على اقتصاديات السوق تتحول رأسماليتها إلى رأسمالية المحاسيب أو رأسمالية الإقطاع لتستفيد بمواردها طبقات محدودة فى مقابل تهميش معظم طبقات الشعب لو لم تقترن بإصلاحات سياسية تكفل الرقابة والشفافية والنيابة الشعبية والشرعية الدستورية.
وأخيرا: حتى تستيقظ مصر فلابد أن نعرف أن القرارات المصيرية لاتخضع لحسابات المستثمرين ومضاربات المقاولين، لكنها يجب أن تكون محل نقاش مجتمعي وسياسي يحترم الدستور.
إذاً فأمْرُ إنشاء عاصمة جديدة لايكون قرارا منفردا بين مسؤول يقرّر ومستثمر تلمع في عينه الفكرة فيتمّ تسويقها للمصريين على سبيل المفاجأة! فالموضوع محسوم بالمادة 222 من دستور 2014 والتي نصت على أن “مدينة القاهرة عاصمة جمهورية مصر العربية.”
وبالتالي قبل أي تنفيذ للمشروع سواء في عشر سنوات أو في خمسة فلابد أن يتم تعديل الدستور، وهذا التعديل يلزم وجود مجلس نيابي أولا، يقدم هو أو رئيس الجمهورية على اقتراح التعديل، ثم يناقش المقترح في خلال شهر، ثم يتم قبول المقترح بالأغلبية البسيطة للمجلس أو عدم قبوله. فإذا ماتم رفضه لا يقدم ثانية فى نفس دورة الانعقاد، وإذا تم قبوله يناقش ثانية بعمق أكبر بشرط مرور ستين يوما من تاريخ الموافقة على التعديل، ثم يتم التصويت النهائي على هذا التعديل، وإما أن يُمرّر هذه المرة بأغلبية الثلثين أو لا يمرر.
فإذا ماتمّ تمريره بهذه الأغلبية يعرض على الشعب للاستفتاء! هذه الإجراءات ليست من عندي، ولكنها نص المادة 226 باب الإحكام العامة من دستور حاصل على 98٪، فكيف يتمّ القفز على كل ذلك؟ ولاسبيل للحديث أن المقصود مجرد عاصمة إدارية لأن المادة 222 جاءت بلفظ العاصمة على إطلاقه، ولم تفرّق بين عاصمة إدارية وأخرى سياسية، فأين النقاش الشعبي أو ما يسمى بالحوار المجتمعي؟ أين رأي البرلمان ومناقشاته؟ أين موقع الدستور من كل ذلك وكيف تنظر له السلطة الحالية ببساطة؟
استيقاظ الأمم لن يأتي بين عشية وضحاها، كما إنه ليس رهن مانشيت هنا أو تعليق هناك. وهو أيضا ليس ناتج حصيلة الأماني والأحلام. وبكل تأكيد لن يتحقق بالدعاية والإعلان، لكن استيقاظ الأمم له أسباب وأصول وثمن إما أن نأخذ بها أو نظلّ حالمين وأسرى للإبهار اللحظي!
الكاتب: أحمد عبد ربه
أحدث التعليقات